غزة– فلسطين الآن– رياض خالد الأشقر ، مدير الدائرة الإعلامية بوزارة الأسرى والمحررين.
المقال :-
كان ذاهباً لزيارة صديق من الخليل، وعلى احد حواجز الاحتلال أوقف الجنود السيارة التي كان يستقلها، وأمرهم الضابط بالخروج منها للتفتيش والتدقيق في الهويات، وبعد ساعة من الانتظار والمضايقات والاستفزاز، أعاد الضابط بطاقات الهوية للركاب ، ما عدا محمود .. قال له الضابط .. انتظر نحن نحتاج لك لدقائق معدودة .. ظن المسكين أن هناك خطأ ما، أو انه تشابه في الأسماء مع أحد المطلوبين، أو أن الجنود أرادوا كعادتهم التسلي بمضايقة المواطنين ووقع الاختيار عليه.
ولكن يبدو أن كل الاحتمالات التي وضعها محمود أمامه لم تكن صائبة ، فبعد انتظار عدة ساعات حضرت سيارة عسكرية ونزل منها الجنود وقاموا بالتوجه نحوه ، أنت محمود ؟ نعم .. اقتاده الجنود نحو السيارة ثم قاموا بوضع رباط على عينية وتقييد يديه بقيود بلاستيكية شعر معها بالألم ، وأخبر الجندي بان القيود مشدودة وتؤلم.. قال له الجندي بالعبرية " شيكيت" يعنى "اسكت" وضعوه في الجيب العسكري وطوال الطريق أشبعوه ضرباً بالأقدام وأعقاب البنادق ، ونعتوه بالارهابى القاتل وعبثا حاول التملص من ضرباتهم المؤلمة .
وصل الجيب إلى مركز التوقيف والتحقيق المعروف "بالجلمة" ودفعه الجنود خارج السيارة بقوة فوقع على الأرض ثم سحبوه إلى زنازين التحقيق، عند الغرفة الأولى البسوه ابرهول بني اللون وهو الزي الخاص بمصلحة السجون.
ثم انتقل إلى الغرفة التالية، وإذا بشخص ينظر إليه بازدراء قيل له انه الطبيب، فسأله إن كنت تشتكى من شيء ، ورغم وجود كدمات وجروح ظاهرة يسيل منها الدم جراء الضرب، إلا أن هذا الطبيب كتب تقريراً بان حالته جيده ولا يعانى من أي أعراض مرضية ، ثم انتقل إلى الغرفة الثالثة وهي غرفة التحقيق ، وإذا بمحقق لا يتجاوز عمره اثنين وعشرين عاماً ، يقول له أنت محمود "إحنا بنستناك من زمان يا راجل".
شعر محمود بالخوف من هذه الكلمات ولكنه تماسك .. لماذا تسألون عني ولم تختطفوني أنا لم افعل شيئاً ، رد المحقق "كلكو فى الأول بتقولو هيك وبعدين بتعترفوا ".. ما عندي شيء اعترف عليه رد محمود بغضب .. أين تسكن .. ومن جيرانك ..وماذا تعمل .. وأين تذهب ..وأين تعمل .. وما هو تنظيمك .. ومن نظمك .. ومن هم أفراد مجموعتك .. وما هي رتبتك في التنظيم ..وما هو نشاطك ضد الجيش ، وما رأيك في الوضع السياسي .
عشرات الأسئلة انهالت على محمود أجاب عن بعضها ولم يجد إجابات للبعض الأخر .. تعرض لصنوف التعذيب من الشبح إلى الضرب إلى الهز العنيف إلى الجلوس على الكرسي الصغير، إلى وضع الكيس في الرأس ، إلى اجبارة على الوقوف لفترات طويلة ، وحرمانه من النوم ليومين متتالين.
وبعد أسبوع من التحقيق لم يستطيع المحققين الذين تعاقبوا عليه أن يثبتوا عليه أي تهمة، لذلك توقع محمود أن يطلق سراحه إلا أن أحلامه تبخرت حينما تم إخراجه في اليوم الثامن وعرضه على قاضى في غرفة صغيرة اعتقد في البداية أن الأمر مجرد تمثيلية للضغط عليه ليعترف بشئ ما، إلا أن سرعان ما أمر ذلك القاضي وهو يقلب في أحد الملفات أمامه ، بتحويله إلى الاعتقال الادارى لمدة ستة شهور، وقبل أن يستوعب الأمر كان الجنود ينقلونه إلى البوسطة ومن ثم إلى سجن النقب حيث سيقضى فترة اعتقاله الادارى دون أن يعرف له تهمة أو يتاح له المجال للدفاع عن نفسه أو توكيل محامى يدافع عنه .. فهذا هو الاعتقال الادارى .
أمضى محمود فترة اعتقاله كاملة بما فيها من معاناة وألم وتضييق وحرمان من كل مقومات الحياة، وبات ليلته الأخيرة وهو يرسم صورة للقاء أهله على الحاجز واحتضان أطفاله الثلاثة .. آه كم اشتاق إليهم .. وبات يحلم بلقاء الأهل والأصحاب والجيران والأقارب الذين سيحضرون لتهنئته بسلامة العودة.
لم ينم في تلك الليلة وظل يتقلب في فراشه حتى أذان الفجر فقام وصلى مع رفاق الأسر وجلس يقرأ بعضاً من القرآن ، وبعد شروق الشمس بدأ يودع رفاقه، وما أن دقت الساعة التاسعة صباحاً حتى لاح جندي من بعيد وفى يده ورقة استبشر محمود خيراً بأنها ورقة الإفراج وبدأ يتابع خطوات هذا الجندي إلى أن وصل إلى أبواب القسم الذي يتواجد فيه وطلب من الشاويش "مسئول القسم" إحضار محمود للخارج علت وجهه ابتسامه عريضة وأسرع نحو الباب .. وسار بجانب الجندي وهو يلوح بيديه للأسرى وإذا بالجندي يسير به في اتجاه مغاير لطريق الخروج شعر بقلق غريب وأدرك سببه حينما ادخله الجندي في غرفة بها قاضى وبعض الجنود ونفس الملف أمام القاضي وإذا به يقول "تقرر تمديد اعتقالك لستة شهور جديدة" لدينا ملف يؤكد انك تشكل خطر على الدولة ، سأل محمود عن فحوى الملف؟ رد القاضي بأنه سري لا يسمح لأحد الاطلاع عليه، وتمت إعادته إلى القسم مرة أخرى ، استقبله الأسرى يخففون عنه وقد كانوا يدركون أن الأمور ستسير على هذا النحو لخبرتهم الطويلة مع إدارة السجون .
وتكرر هذا الأمر مع محمود للمرة الثالثة والرابعة والخامسة حتى أصبح لا يحسب حساباً لمدة الحكم ، وهذا الأمر لا يسرى على محمود لوحدة إنما على مئات الأسرى الفلسطينيين الذين يتم اختطافهم من الشوارع والجامعات والمنازل وأماكن العمل ويخضعوا إلى القانون الظالم المسمى "الاعتقال الإداري" ، دون تهمة أو محاكمة ويتم التجديد لهم لعدة مرات والتهمة جاهزة الملف السري
مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول